علي بن أبي طالب في الميزان - تفكيك الأسطورة وقراءة في التاريخ الواقعي
مقدمة: خطاب إلى الباحث عن الحقيقة
يا أخي المسلم، يا من نشأت مثلي على حب الصحابة وتقديس رجال الماضي، ويا من وقفت حائراً أمام بحر الدماء الذي فصل بين من كانوا بالأمس إخوة متحابين. إن ما ستقرؤه هنا قد يكون مؤلماً، لكنه ضروري لتحرير عقولنا من أغلال الأسطورة التي كبلتنا لقرون.
لقد تعلمنا أن التاريخ الإسلامي بعد النبوة هو قصة "خلفاء راشدين" تليهم فترة "ملك عضوض"، وأن الشر كله بدأ مع بني أمية. وكنتُ، مثلك، أتقبل على مضض أن معاوية وأباه ومروان، وهم من مسلمة الفتح وحديثي العهد بالإسلام، قد حملوا إثم التحريف كله. كنت أريد أن أحملهم وزر كل ما جرى.
لكن رحلة البحث العميق في التاريخ، بعين المحقق لا المقلد، قادتني إلى حقيقة أكثر إيلاماً: إن الجرح أعمق، والطعنة الأولى التي أنهت عصر الشورى والعدل لم تأتِ من عدو بعيد، بل جاءت، ويا للأسف، من أقرب المقربين. والله إن سيف ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند. تعال معي لنعيد قراءة الأحداث التي شكلت وعينا، ولنرَ كيف صُنعت الأسطورة، وكيف غُيّب التاريخ الواقعي.
- الجذور والنشأة: بين ولاء القبيلة وعقيدة الإيمان
لكي نفهم الرجل، يجب أن نفهم جذوره. لقد نصر أبو طالب النبي ﷺ نصراً مؤزراً، وهذا لا ينكره أحد. لكن هذا النصر كان في جوهره نصراً قبلياً، دفاعاً عن ابن أخيه وسيد بني هاشم. إنها عصبية محمودة في نتيجتها (حماية النبي)، لكنها ليست بالضرورة نابعة من عقيدة إيمانية خالصة.
في هذا الجو، نشأ علي بن أبي طالب صبياً في كنف ابن عمه الذي يرعاه. إسلامه المبكر، الذي يُقدم كأعظم المناقب، يجب أن يُقرأ في سياقه الواقعي. إنه إسلام طفل يتبع من يكفله، ولاء عاطفي فطري، وليس قراراً عقدياً ناضجاً كقرار أبي بكر الصديق، الذي اختار الإيمان وهو رجل كامل الأهلية، متحدياً قومه ومضحياً بمكانته. هذا الفارق في طبيعة الإيمان الأول يؤسس لفهم مختلف: عقلية ترى في "القرابة" استحقاقاً، وفي "النسب" حقاً إلهياً، وهي بذرة النعرة الجاهلية التي ستثمر لاحقاً في الصراع على السلطة.
- أسطورة الفراش: تضحية أم ورطة أخلاقية؟
تُعد قصة نوم علي في فراش النبي ﷺ ليلة الهجرة من أشهر قصص التضحية. لكن دعنا نتوقف ونسأل بصدق، بعيداً عن العاطفة:
• المعضلة الأخلاقية: هل يُعقل أن النبي ﷺ، وهو على خلق عظيم، يضع ابن عمه الصغير، الذي هو أمانة في عنقه، كـ "طُعم" في فراشه ليواجه سيوف القتلة، بينما ينجو هو بنفسه؟ إن قبول هذه الرواية يعني قبول صورة مشوهة للنبي، صورة لرجل يضحي بطفل لإنقاذ نفسه، وهو أمر محال على أخلاقه ﷺ.
• المعضلة اللوجستية: يُقال إنه بقي لرد الأمانات. الهجرة كانت عملية سرية مخطط لها، فهل من المنطق ترك كل الأمانات لآخر لحظة خطرة ليقوم بردها صبي؟ أليس الأوقع أن تكون قد رُدت سراً قبلها؟
• المعضلة الأمنية: لنفترض أن الكفار اكتشفوا الخدعة. كيف تركوا علياً يذهب؟ ألم يكن هو مفتاح السر لمعرفة وجهة النبي؟ إن إفلاته منهم بهذه السهولة يجعل القصة أقرب إلى الحكايات الشعبية منها إلى حدث تاريخي محكم.
إن التدقيق يكشف أن هذه الرواية، على الأرجح، تمت المبالغة فيها أو اختلاقها لاحقاً لنسج هالة من البطولة والتضحية حول شخصية علي منذ بداياتها.
- الزواج والسياسة: قراءة في حادثة ابنة أبي جهل
تُروى قصة رغبة علي في الزواج من ابنة أبي جهل وغضب النبي ﷺ وصعوده المنبر، على أنها مجرد غيرة على ابنته فاطمة، أو كراهية لاجتماع ابنة رسول الله وابنة عدو الله. لكن القراءة الأعمق تكشف عن أبعاد سياسية وعقدية:
• الدافع الشخصي والاقتصادي: لنكن واقعيين. علي بن أبي طالب كان رجلاً فقيراً يعيش على الكفاف. عرض الزواج من ابنة أحد سادات قريش (بني مخزوم) دون تكاليف، هو ما يمكن وصفه بـ"الغنيمة الباردة" التي تهوي إليها النفس البشرية.
• العرف الجاهلي: كانت المصاهرة عرفاً جاهلياً لتتويج الأحلاف السياسية وتأكيد الصلح بين القبائل المتنافسة.
• المعضلة العقدية (المفتاح المفقود): هنا يكمن جوهر الأمر الذي تغفله السرديات التقليدية. من قال إن ابنة أبي جهل كانت مسلمة؟ كتب السير تطمس حقيقة أن كثيراً من أهل مكة بقوا على شركهم بعد الفتح وعصموا دماءهم بالصلح. إن وصف النبي لها بأنها "ابنة عدو الله" لا يستقيم أبداً لو كانت مسلمة، فالله لا يؤاخذ أحداً بجريرة أبيه. إن غضب النبي وصعوده المنبر لم يكن لتحريم "التعدد" (الحلال)، بل كان لتطبيق حكم الله بتحريم زواج المسلم من المشركة، ورفضاً قاطعاً لإعادة إحياء الأعراف الجاهلية في بناء التحالفات على حساب العقيدة. لقد كانت رسالة واضحة: الولاء والبراء في الإسلام فوق كل اعتبار قبلي أو سياسي.
- التعدد والظرف الاقتصادي: هدم القداسة الزائفة
لماذا لم يتزوج علي على فاطمة في حياتها؟ تُقدم الروايات هذا كدليل على مكانة خاصة وقدسية تمنعه. لكن القراءة الاقتصادية تقدم تفسيراً أبسط وأكثر واقعية:
• علي لم يكن يملك القدرة المادية لفتح بيت ثانٍ وإعالة أكثر من زوجة في حياة النبي وفاطمة. التعدد، تاريخياً واجتماعياً، مرتبط بالسعة المادية.
• بعد وفاة فاطمة، تغير وضعه الاقتصادي، وأصبح له نصيب من أموال الدولة (الخمس)، وهذا التغير هو الذي مكنه من التعدد لاحقاً. إنها ظروف بشرية طبيعية، لا قداسة فيها ولا خصوصية.
- الطامة الكبرى: التحالف مع القتلة ونهاية الشورى
هنا نصل إلى المنعطف الأخطر. بعد مقتل الخليفة عثمان غدراً على يد ثلة من المارقين في الشهر الحرام، وقعت الكارثة التي غيرت وجه الإسلام:
• بيعة الدم: بدلاً من القصاص من القتلة، قبل علي بن أبي طالب البيعة منهم، بل وجعل قادتهم (كمالِك الأشتر وغيره) هم قوام جيشه وقادته . لقد أضفى بذلك الشرعية على أول انقلاب دموي في تاريخ الإسلام.
• مذبحة البدريين (الجمل): عندما خرج خيرة الصحابة (الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة) للمطالبة بالحق والقصاص، لم يتردد علي في مواجهتهم بجيش من الثوار والغوغاء. لم تكن "فتنة"، بل كانت مذبحة غادرة تم فيها القضاء على من تبقى من أهل بدر والسابقة، الذين كانوا يمثلون الشرعية الحقيقية للأمة.
• تأسيس "البيعة أو السيف": لقد كان علي بن أبي طالب أول من سنّ سنة قتال المسلمين لإجبارهم على البيعة لشخصه، محولاً الخلافة من عقد رضائي (شورى) إلى حق إلهي مزعوم يُفرض بقوة السيف. وهي السنة السيئة التي سار عليها كل الطواغيت من بعده.
الخاتمة: الطعنة من القريب
إن الحقيقة مؤلمة، لكن لا بد من مواجهتها. إن الطعنة التي أنهت عصر الشورى، وفتحت باب الدم الذي لم يغلق إلى اليوم، لم تأتِ فقط من الأمويين الذين كانوا على الطرف الآخر من الصراع، بل جاءت من الداخل، ممن استخدم سيف القرابة النبوية لضرب مبادئ النبوة نفسها. إن فهم هذه الحقيقة هو أول خطوة لتحرير وعينا من أسر الأشخاص، والعودة إلى تقديس المبادئ التي أنزلها الله في كتابه.
تفكيك الأسطورة.و الانتقال من الأحداث العامة إلى قراءة نفسية وشخصية للعلاقة بين علي بن أبي طالب والنبي ﷺ، وهو ما يهدم الصورة المثالية التي تقدمها الروايات التقليدية.