عودة المسلمين لميقات رب العالمين

تفكيك جديد للأسطورة - قراءة في العلاقة الشخصية والبطولة الزائفة

مقدمة: ما وراء الرواية الرسمية
لكي نفهم حقيقة التاريخ، يجب أن نتحلى بالشجاعة لنقرأ ما بين سطور الروايات، وأن نحلل الدوافع الإنسانية الكامنة خلف الأحداث. إن السرديات التقليدية، في سعيها لصناعة القداسة، غالبًا ما تمحو أي أثر للخلاف أو التنافر في العلاقات الشخصية، وتقدم لنا صورة مثالية لا وجود لها في عالم البشر.
في هذا الفصل، سنتجاوز الصورة الرسمية، وسنغوص في ثلاث محطات رئيسية تكشف أن العلاقة بين علي بن أبي طالب والنبي ﷺ لم تكن بذلك الانسجام الأسطوري، وأن بطولاته المزعومة تخفي وراءها واقعاً مختلفاً.

  1. علاقة الصهر والوالد: حين يغضب النبي من إلحاح علي

تُقدم الروايات علاقة علي بالنبي على أنها علاقة التلميذ بأستاذه، والابن بأبيه الروحي، وأنه كان للنبي "بمنزلة هارون من موسى". لكن حادثة طلبه الزواج من ابنة أبي جهل تكشف عن شرخ عميق في هذه الصورة المثالية.
لنفترض جدلاً أن ابنة أبي جهل كانت مسلمة. إن إصرار علي وإلحاحه على هذا الزواج، لدرجة أنه أغضب النبي ﷺ حتى صعد المنبر، هو دليل على علاقة شخصية لم تكن بذلك التناغم المطلق. لو كان الود والاحترام الكامل هو السائد، ولو كان علي تلميذاً نجيباً يأتمر بأمر معلمه، لاكتفى بتوجيه شخصي من النبي يرفض فيه هذا الأمر. لكان النبي قد قال له في جلسة خاصة: "يا علي، ارفض هذا الأمر، فهذه الهبة لا تناسبك". وانتهى الأمر.
لكن الروايات تخبرنا أن علياً ألحّ في طلبه، مما اضطر النبي إلى تصعيد الموقف إلى العلن، وإعلانه على الملأ من فوق المنبر. هذا لا يدل على علاقة التلميذ المطيع، بل يدل على علاقة إنسانية طبيعية فيها شد وجذب، وفيها إصرار من طرف على رغبة شخصية، وغضب مبدئي من الطرف الآخر. إن إلحاح علي في أمر أغضب النبي هو دليل على أنه لم يكن يرى في رفض النبي حكماً ملزماً، بل رأياً شخصياً يمكن مراجعته والضغط لتغييره، وهو ما يكشف عن حقيقة العلاقة البشرية الواقعية بينهما، بعيداً عن أسطورة "الاتباع الكامل".
  1. أسطورة المبارزات الفردية: تاريخ هوليوودي من صنع القُصّاص

إن جزءاً كبيراً من أسطورة علي بُني على قصص بطولاته الفردية في المبارزات، والتي تبدو أقرب إلى مشاهد سينمائية خيالية منها إلى وقائع تاريخية. إن هذا النوع من السرد يكشف عن "تقعّر" كاتب الرواية، الذي يريد أن يبني بطلاً خارقاً على الطريقة الفارسية أو الرومانية، وهو ما يتعارض مع روح القرآن.
• القرآن ينسب النصر للجماعة ولله: النصر في القرآن ليس بطولة فردية. في بدر، كان النصر بـ ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾. وفي الأحزاب، كان النصر بالريح والجنود التي لم تروها. القرآن يركز على "الفئة المؤمنة" كوحدة واحدة صابرة، ولا يختزل النصر في ضربة سيف من بطل واحد.
• تعويض عن غياب الدور الاستراتيجي: إن المبالغة في تصوير البطولات الفردية غالباً ما تكون آلية لتعويض النقص في الدور القيادي الاستراتيجي. فكما رأينا، لم يتول علي قيادة أي من الفتوحات الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ. ولذلك، احتاج أتباعه لاحقاً إلى صناعة هذه الصورة "الهوليوودية" للمقاتل الذي لا يُقهر، ليصنعوا له مجداً يوازي مجد القادة الحقيقيين كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم ممن كانوا في قلب المعارك الكبرى.
  1. التخلف عن تبوك: "جيش العسرة" والفضيلة المصطنعة

إن المحطة الأكثر كشفاً في هذا السياق هي غزوة تبوك. كانت هذه الغزوة هي الاختبار الأصعب والأشد على الأمة بأكملها، ولذلك سُمي جيشها بـ "جيش العسرة". كانت لحظة فارقة ميّز الله بها الخبيث من الطيب، والصادق من المنافق.
وفي هذه اللحظة الحاسمة، تخلف علي بن أبي طالب عن الجيش. الرواية الرسمية تحاول تجميل هذا التخلف وتحويله إلى منقبة، فتزعم أن النبي خلّفه على أهله، وأنه لما حزن عليٌّ قال له النبي: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي".
لكن التحقيق المنطقي ينسف هذه الرواية:
• من هم المتخلفون عن تبوك؟ القرآن والتاريخ يخبراننا أن من تخلف عن جيش العسرة كانوا ثلاثة أصناف: أصحاب الأعذار الحقيقية، والمنافقون، والثلاثة الذين خُلفوا وصدقوا في توبتهم. فأين نضع علياً بين هؤلاء؟
• الأهمية الاستراتيجية: هل من المنطقي أن يترك النبي ﷺ قائداً من أفضل مقاتليه، كما تزعم الأسطورة، في المدينة في أخطر وأهم غزوة في حياته، ليحمي النساء والأطفال؟ إن حماية المدينة مهمة، ولكن مواجهة إمبراطورية الروم هي الأهم والأخطر.
• "منزلة هارون" - فضيلة أم ترضية؟ إن الرواية نفسها تحمل دليل بطلانها. فهي تذكر أن علياً لحق بالنبي وهو يبكي ويقول: "أتخلفني مع النساء والصبيان؟". هذا يدل على أنه هو نفسه في تلك اللحظة كان يرى في تخلفه "نقيصة" و"إهانة"، لا تشريفاً. فجاء قول النبي "كمنزلة هارون" كترضية ومواساة لرجل شعر بالإبعاد، وليس كإعلان عن منصب أو مكانة. لقد قام الرواة لاحقاً بأخذ هذه العبارة "الترضوية" وحولوها إلى "فضيلة تأسيسية" لإثبات حقه في الخلافة.
إن التخلف عن جيش العسرة يظل نقطة ضعف في سجله، ومحاولة تحويلها إلى فضيلة عبر رواية "هارون وموسى" هي مثال صارخ على كيفية عمل آلية "صناعة الأسطورة"، التي تأخذ حدثاً إشكالياً وتغلفه بقصة جميلة لتغير معناه بالكامل.
"بمنزلة هارون من موسى": تفكيك أخطر نصوص التأسيس التي كانت تبرير لقعود علي عن غزوة العسرة الكاشفة للمنافقين و في ذات الوقت تأسيس لمنابت الغلو الكبير
إن من أخطر النصوص التي تم دسّها في التراث، واستُخدمت كقنبلة لنسف مبدأ الشورى من أساسه، هو ذلك القول المنسوب للنبي ﷺ في سياق تخلف علي عن غزوة تبوك: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟".
إن هذا النص ليس مجرد فضيلة عابرة، بل هو إعلان ولاية دينية وسياسية خطيرة جداً، ولو ثبت هذا النص لكانت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان باطلة لا محالة، ولكان الحق مع من قالوا بالوصية. دعنا نمحص هذا النص ونكشف عن خطورته المهولة التي لا أعرف كيف لم يتنبه لها الكثيرون.
  1. التبعات اللاهوتية والسياسية للتشبيه:

إن تشبيه علي بهارون ليس تشبيهاً بسيطاً. فهذا يعني، وفقاً للمنطق الصريح، أن علياً يرث كل منازل هارون بالنسبة لموسى، وهي:
• النبوة والوزارة: هارون كان نبياً، وكان وزيراً لموسى وشريكه في أمره.
• الأفضلية المطلقة: كان هارون هو أفضل أصحاب موسى وأقربهم إليه.
• الخلافة والوصاية: لقد استخلف موسى هارون على قومه حين ذهب لميقات ربه.
فإذا كان علي بمنزلة هارون، فهذا يجعله أفضل الأمة بعد النبي، ووزيره، وخليفته المنصوب لا محالة. وهذا الادعاء ينسف شرعية كل من تقدم عليه، ويحول الأمر من "شورى بين المؤمنين" إلى "حق إلهي" تم اغتصابه.
  1. التناقض الصارخ مع المنهج القرآني:

إن هذا الزعم بولاية دينية متوارثة هو كذب صرف يصطدم بشكل مباشر مع روح القرآن ومنهجه في الحكم والولاية:
• لا وراثة في الدين: القرآن ينسف فكرة الوراثة الدينية. فالله يقول عن ابن نوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.
• لا أبوة للنبي في الحكم: لقد حسم القرآن هذه المسألة بآية قاطعة، وكأنه كان يعلم ما سيحدث من غلو في الأنساب: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾. فالنسب، ولو كان بنوة مباشرة، لا ينقل الولاية الدينية، فما بالك بالمصاهرة والعصب؟
إن هذا الحديث يحاول أن يؤسس لمبدأ "كهنوتي" و"وراثي" غريب تماماً عن روح الإسلام الذي جاء ليحرر الناس من عبادة الأنساب والأشخاص.
  1. "إلا أنه لا نبي بعدي": ترقيع لا يخفي الحقيقة:

إن محاولتهم تجميل الرواية المكذوبة بعبارة "ولكن لا نبي بعدي"، هي محاولة ترقيع مفضوحة. فهي وإن اضطرت لنفي النبوة الصريحة حتى لا تصير تكذيباً مباشراً لختم الرسالة، إلا أنها تقر ضمناً بكل ما تبقى من منازل هارون. فهي تقر بأنه أفضل الأمة وأولاهم بالخلافة، لأن منزلته كمنزلة هارون لموسى، الذي كان أفضل أصحاب موسى وأولاهم.
  1. الحقيقة خلف الرواية: تحويل الترضية إلى وصية

كما بينا سابقاً، السياق الحقيقي لهذه الرواية، إن صحت، يكشف القصة الحقيقية. لقد قيلت في سياق تخلف علي عن جيش العسرة، وشعوره بالنقص والحزن لأنه تُرك مع النساء والصبيان. فجاءت هذه الكلمة كـ "مواساة وترضية" من النبي له، بمعنى: "إن مهمتك في حفظ المدينة مؤقتاً تشبه مهمة هارون في حفظ بني إسرائيل مؤقتاً".
لقد أخذ أصحاب الأهواء هذه العبارة "الترضوية" الشخصية، وبتروها عن سياقها المحرج (التخلف عن الغزوة)، وحولوها إلى "نص تأسيسي" و"وصية سياسية" عالمية، ليبنوا عليها هرماً كاملاً من الباطل.
إن خطورة هذا النص تكمن في أنه المدخل الذي تم من خلاله شرعنة فكرة "الحق الإلهي الموروث"، وهي الفكرة التي قتلت الشورى، وأشعلت الفتن، ولا تزال الأمة تحترق بنارها إلى اليوم.

سجل المراجعات